.
أخترت المنسف ليكون شعارنا الوطني باعتباره المقترح الحضاري الأبرز الذي قدمناه اسهاما في اغناء التراث الانساني.
فبالنسبة لعشاق البيتزا واللزانيا والتشيزبرغر قد يكون المنسف عبارة عن طقس رجعي آخر من طقوس الخمول يزاوله أعراب مترهلون كجزء من نمط حياتهم البليد تحت شمس الصحراء اللاهبة.. ولكن بالنسبة لاولئك الذين ما زالوا يتقنون الاحتفاء بوجاهات الحياة البكر، فإن المنسف ليس مجرد توليفة من الطعم والنكهة والسعرات الحرارية، وإنما هو اسلوب حياة.
فالجميد المصنوع من الحليب الطازج يمثل الفطرة، والأرز (المعورم) يمثل البركة، ولحم الضأن الغض يمثل الرزق والنعمة، ومبدأ الوجبات الجماعية (mass-meals) يمثل الألفة، والتحلق حول صدر الطعام يمثل الوحدة، والأكل باليدين العاريتين يمثل التواضع، و(فت) اللحم يمثل الايثار والحرص، والتشريب يمثل الغوث.. وفنجان القهوة العربية الاصيلة بعد أن (يفلح المعازيم) و(يخلف المعازيب) يتوّج جميع ما تقدم بعبق الشرق وماركة شيخته المسجلة.
والمنسف وليمة عابرة للمناسبات، وهو ما ينسحب على طبيعة تفاعل الشخص معه في ضوء خصوصية كل مناسبة: فمناسف الاعراس على سبيل المثال يغلب عليها طابع (الممالحة) حتى لا تؤوّل شهية المدعوين إلى (كسبة)، خاصة اولئك الذين حتمت عليهم ضروراتهم الاجتماعية وأواصرهم القرابية تأدية النقوط طوعا أو كرها إلى العريس.
وفي المقابل، نجد الأصول المرعيّة في مناسف العزاء تتطلب من المعزي أن يأكل حد (الانبعاط)، حتى وإن كان ذلك بمقدار الاربعين لقمة المعتمدة رسميا كعيار للشبعان، وذلك من منطلق أنه كلما أكلت أكثر، تنزّلت الرحمة أكثر فأكثر على روح الفقيد.
أما في رمضان، فأن تكون معزوما على افطار منسف هو عذر قوي للتخلف عن حضور صلاة التراويح، خاصة إذا قدم المنسف مدعّما بطبق جانبي من فجل غير (مفروّن) وبصل أخضر حرّاق.
وهناك أيضا حركة المناسف الكثيفة التي تعقب عيد الأضحى، والتي تتميز بتنوع المذاقات نظرا لتنوع مصادر الهبر والزفر.
ولا يعرف على وجه التحديد متى كانت أول مرة أعدّ فيها المنسف، فهل كان ذلك عندما قام حاتم الطائي بقتل فرسه لاطعام ضيوفه وجيرانه الجائعين؟ أم أن جذور المنسف ضاربة في القدم لما وراء ذلك، كعشاء السيد المسيح الأخير مع حوارييه؟ أو المائدة التي تنزّلت من السماء؟ أو المن والسلوى الذين فرط بهما بنو اسرائيل في سبيل عشقهم المزمن (للمنفّخات)؟
بل ولعل المنسف هو ما أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة، وذلك قبل أن تحّرف الرواية التاريخية على يد من (حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها) مختزلين معاناتنا البشرية بقضمة تفاحة؟
ويبقى الشيء الأكيد أن المنسف كالشرق الذي أنتجه هو وليمة ذكورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فليس الرجال فقط أشره من يأكل المنسف، بل وهم أفضل من يطبخه، وخاصة الطهاة المتقاعدون من مختلف مرتبات القوات المسلحة.
وربما تعود ذكورة المنسف إلى أن التخمة والثقل والانطفاء والتقييل التي تعقب تناوله لا تتناسب مع مفهوم النساء للجمعات واللمّات القائم على (طق الحنك)، وما يستدعيه هذا من حضور للبديهة وتحفّز للحواس!!
صحتين وعافيه يا اعضاء
يا عمي ماكدونالدز وشيز برغر وسكالوب وبطيخ وشمام
في أزكى من المنسف يا شباب